الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إن المنافقين هم الفاسقون}.فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطريق، وقد وعدهم الله مصيرًا كمصير الكفار:{وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم}. وفيها كفايتهم وهي كفاء إجرامهم.{ولعنهم الله}. فهم مطرودون من رحمته.{ولهم عذاب مقيم}. هذه الطبيعة الفاسقة المنحرفة الضالة، ليست جديدة، ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال. ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز. ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة، بعدما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض، وكانوا أشد قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فلم يغن عنهم من ذلك كله شيء.والقرآن يذكر القوم بما كان من أسلافهم، ويبصرهم بأنهم يسلكون طريقهم، ويحذرهم أن يلاقوا مصيرهم. لعلهم يهتدون:{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون}.إنها الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته. وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام:{أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}.وبطلت بطلانًا أساسيًا، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر.{وأولئك هم الخاسرون}.الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل.ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون:{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} ممن ساروا في نفس الطريق؟ {قوم نوح} وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب {وعاد} وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية {وثمود} وقد أخذتهم الصيحة {وقوم إبراهيم} وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم {وأصحاب مدين} وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة {والمؤتفكات} قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين {أتتهم رسلهم بالبينات} فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم:{فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؟إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر. وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحدًا من الناس. وإن كثيرًا ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين. عندئذ تحق عليهم كلمة الله، وعندئذ تجري فيهم سنة الله، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون. والله من ورائهم محيط.إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء، نراها في كل زمان وفي كل مكان. إلا من رحم الله من عباده المخلصين. اهـ.
|